 |
| المنمنمات العربية |
أصل المنمنمات العربية فن الترف والدقة في صفحات التاريخ
المنمنمات العربية هي لوحات صغيرة الحجم، دقيقة التفاصيل، تُستخدم لتزيين المخطوطات وإضفاء الحيوية على النصوص الأدبية والعلمية والدينية.
يعود أصل هذا الفن في العالم العربي إلى التقاء بين التأثيرات الشرقية والفارسية والبيزنطية، ويمثل إحدى أبرز ملامح الحضارة الإسلامية من حيث الجماليات والدقة الفنية.
وفي هذا المقال، نستعرض أصل هذا الفن وتطوره، وأبرز ملامحه في السياق العربي الإسلامي.
 |
| لوحات ملونة |
ما هي المنمنمات؟
المنمنمة هي لوحة فنية صغيرة تُرسم غالباً على الورق أو الرق داخل الكتب والمخطوطات، وتُستخدم لتوضيح أو تزيين النص. تتميز هذه الرسوم بتفاصيلها المتقنة، ألوانها الزاهية، وتركيبها الدقيق. غالباً ما تكون مصحوبة بزخارف نباتية أو هندسية، وتُرسم باستخدام ألوان معدنية ومائية مثل الذهب واللازورد.
أصل المنمنمات العربية و الجذور التاريخية
1. التأثيرات الفارسية والبيزنطية
قبل ظهور المنمنمات العربية، كانت هناك تقاليد فنية غنية في الإمبراطورية الساسانية (الفارسية القديمة)، حيث عُرفت الرسوم الدقيقة والزخرفة في النصوص. كما تأثر الفن الإسلامي بالفن البيزنطي الذي كان يستخدم الزخارف المصغّرة في تزيين المخطوطات الدينية.
 |
| المنمنمات الفارسية القديمة |
2. ظهور المنمنمات في العصر العباسي
تُعد الدولة العباسية (750–1258 م) الحاضنة الأولى للمنمنمات الإسلامية، وخصوصاً في بغداد. شهدت تلك الفترة نشاطاً فكرياً وعلمياً واسعاً، حيث تمت ترجمة الكثير من الكتب اليونانية والفارسية إلى العربية، وزُينت تلك المخطوطات بالرسوم التوضيحية.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك مخطوطات "رسائل إخوان الصفا" و"كتاب الحيوان" للجاحظ.
أبرز مدارس المنمنمات العربية
1. المدرسة العباسية
تميزت هذه المدرسة باستخدام الألوان القوية والأشكال الهندسية، كما ركزت على المشاهد التعليمية والعلمية، مثل الطب والفلك والحيوان. من أشهر النماذج: "كتاب الحيل" لبني موسى و"كتاب الأغاني".
2. المدرسة المغربية والأندلسية
ظهرت في المغرب والأندلس أساليب فنية ذات طابع هندسي وزخرفي بحت، تأثرت بالثقافة الأمازيغية والأندلسية، وغالباً ما كانت المنمنمات هنا تُستخدم في تزيين المصاحف والمخطوطات الدينية.
3. المدرسة المملوكية
برزت في مصر وبلاد الشام في العصور الوسطى، وكانت غنية بالتفاصيل وتعتمد على الخطوط الدقيقة، وغالباً ما صوّرت معارك أو مناسبات ملكية.
 |
| خصائص المنمنمات العربية |
خصائص المنمنمات العربية
- الابتعاد عن التجسيد الكامل: التزاماً بالتقاليد الإسلامية التي تمنع التصوير الكامل للكائنات الحية، كان التركيز غالباً على الزخرفة أو التمثيل الرمزي.
- التوازن بين النص والصورة: كانت المنمنمة لا تغطي كل الصفحة، بل تُدرج بتوازن بصري مع النص.
- الرمزية والتجريد: استُخدمت الألوان والخطوط والرموز لتعبر عن مفاهيم مجردة مثل القوة، السكينة، أو الجمال.
- التفاصيل الدقيقة: يعتمد الفنان على فرشٍ دقيقة جداً ويستخدم ألواناً مشتقة من المعادن والنباتات، ما يجعل المنمنمات تحفاً فنية دقيقة.
أصل المنمنمات العربية - فن له وظيفة
لم تكن المنمنمات مجرد فن للتزيين، بل كانت وسيلة بصرية لتوضيح الأفكار وتبسيط العلوم، خصوصاً في كتب الطب والهندسة والفلك. كما كانت وسيلة لتعزيز مكانة الكتاب وتكريمه، خاصة إن كان مصحفاً أو ديوان شعر أو مؤلفاً علمياً مهماً.
المنمنمات اليوم إرث حيّ
لا تزال المنمنمات مصدر إلهام للفنانين المعاصرين، وتُعرض في المتاحف الكبرى حول العالم، مثل متحف المتروبوليتان في نيويورك، والمتحف الإسلامي في القاهرة. كما تسعى بعض المدارس الفنية إلى إحياء هذا الفن باستخدام التقنيات الرقمية أو الورق التقليدي.
اقرأ ايضا مقال العصر العباسي فن الضيافة وتنظيم المائدة بين الفخامة والذوق الرفيع
 |
| الوان المنمنمات العربية |
أصل المنمنمات العربية - الألوان المستخدمة في رسم المنمنمات
كانت ألوان المنمنمات العربية تقليدياً ألواناً طبيعية تماماً، استُخرجت من مصادر نباتية ومعدنية وحيوانية. وقد كان تحضير هذه الألوان يتطلب خبرة دقيقة، ويُعتبر فناً بحد ذاته. إليك كيفية تلوين المنمنمات:
مصادر الألوان الطبيعية
1. الألوان النباتية
- الأخضر: يُستخرج من نبات النيلة أو من أوراق بعض النباتات مثل الكلوروفيل.
- الأحمر: يُستخرج من جذور نبات الفوة (المعروفة بالروت)، أو من لحاء بعض الأشجار.
- الأصفر: يأتي من الزعفران، أو من نباتات مثل العصفر والكركم.
2. الألوان المعدنية
- الأزرق السماوي: يُستخرج من حجر اللازورد (Lapis Lazuli)، وهو حجر كريم نادر، وغالباً ما كان يُستورد من أفغانستان.
- الأبيض: يُستخدم الكاؤولين أو كربونات الكالسيوم (من الطباشير أو الحجر الجيري).
- الأسود: يُصنع من الفحم النباتي أو من السخام الناتج عن حرق الزيت أو الشموع.
- الذهبي والفضي: يُستخدم ذهب حقيقي مطحون أو رقائق ذهبية تُخلط مع صمغ طبيعي، وكذلك الفضة.
3. الألوان الحيوانية
القِرمِز (Cochineal): صبغة حمراء تُستخرج من حشرات القرمز المجففة.
النيلي: مستخرج من تخمير أوراق نبات النيلة (إنديجو).
طريقة التحضير والاستخدام
1.سحق المواد الخام: كانت الأحجار أو النباتات تُطحن حتى تصبح مسحوقاً ناعماً.
2. الخلط مع مواد رابطة: يُخلط اللون مع مواد مثل الصمغ العربي أو بياض البيض (يعرف باسم "الغليير") لتثبيت اللون على الورق.
3. تجربة اللون: كان الرسام يجرب اللون على رقعة صغيرة قبل استخدامه على اللوحة.
4. وضع الألوان على الطبقات: تُرسم المنمنمات على مراحل، بداية بالرسم الخطي، ثم ملء المساحات اللونية، ثم التظليل، وأخيراً الزخرفة الذهبية.
 |
| رسم الاوضاع السياسية بدقة |
لماذا استُخدمت الألوان الطبيعية؟
- الثبات والجودة: الألوان الطبيعية كانت تدوم لقرون دون أن تتلاشى، خاصة إذا حُفظت في مخطوطات مغلقة.
- القيمة الفنية: بعض الألوان مثل الأزرق اللازوردي والذهب كانت رموزاً للثراء والرقي، تُستخدم في كتب الملوك والخلفاء.
- الارتباط بالطبيعة: الفلسفة الإسلامية شجعت على التأمل في الطبيعة والارتباط بها، ما انعكس على اختيار مواد الرسم.
من أوائل من أُدرجت المنمنمات في كتبهم
أول من أضاف المنمنمات إلى القصص في التراث العربي والإسلامي لم يكن شخصاً واحداً محدداً، بل كان ذلك نتيجة تطور تدريجي للفن التصويري في المخطوطات، إلا أن هناك شخصيات ومؤلفات تُعد من أوائل النماذج التي ظهرت فيها المنمنمات المرتبطة بالسرد القصصي بشكل واضح ومن أشهرهم:
1. أبو المعالي عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عبد الله بن محمد بن البيطار
يُقال إنه أول من وضع رسومات توضيحية في مخطوطاته النباتية في القرن السابع الهجري، لكن هذه لم تكن قصصية بالمعنى الأدبي، بل علمية توضيحية.
2. الحريري البصري (توفي 516 هـ / 1122 م)
مؤلف كتاب "مقامات الحريري"، ويُعد هذا الكتاب من أوائل وأشهر الأعمال الأدبية التي تم تزيينها بالمنمنمات. وقد زُينت نسخ "المقامات" برسوم ملونة تصور مشاهد من الحكايات، وخاصة في النسخ التي نُفذت في مدرسة بغداد للمنمنمات خلال العصر العباسي.
من اشهر نسخ "مقامات الحريري" المصورة:
نسخة المكتبة الوطنية في باريس، والتي رسمها الفنان الشهير يحيى بن محمود الواسطي سنة 1237م، وتُعد إحدى أروع النماذج العربية للمنمنمات القصصية.
3. الكتب الفارسية المترجمة إلى العربية
مثل "كليلة ودمنة"، والتي تُرجمت من الفهلوية إلى العربية في العصر العباسي على يد عبد الله بن المقفع. وقد زخرفت بعض نسخ هذا الكتاب بمنمنمات جميلة، نظراً لطبيعته القصصية الرمزية.
اقرأ ايضا مقال هل الحظ حقيقي- معتقدات الناس حول الحظ
منمنمات مقامات الحريري
إليك مجموعة رائعة من صور منمنمات مقامات الحريري التي نفذها الفنان العبقري يحيى بن محمود الواسطي (1237م) ضمن النسخة الشهيرة المخزنة في مكتبة باريس الوطنية:
 |
| منمنمات مقامات الحريري |
لمحة عن هذه المنمنمات:
• الحياة اليومية في القرى
تُظهر أولى الصور مشاهد من الحياة القروية، حيث يُبرز الواسطي التفاصيل اليومية: أبواب المنازل المفتوحة، النساء والأطفال، الحيوانات، والمساجد—كل ذلك بتنظيم سردي في مساحات صغيرة .
• تزيين القصص بالسرد البصري
ما يميز هذه المنمنمات أنها ليست مجرد زخرفة، بل تكمل النص القصصي للبطل أبو زيد، سواء في مشاهد السفر، الأسواق، أو المقاهي .
• مدارس بغداد للتصوير
تُعد نسخة الواسطي مثالاً رفيعاً من مدرسة بغداد، التفنن في تصوير "أنواع" المجتمع: الفرسان، التجار، العبّاد، الأطفال، والنساء، كلٌّ بلباسه ونمطه الاجتماعي .
لمَ تُعدّ هذه المنمنمات بارزة؟
 |
| رسم تفاصيل الحياة اليومية |
- عددها وجودتها الاستثنائية: تحتوي المخطوطة على 99 منمنمة بديعة، وهو رقم يفوق نسخ كثيرة أخرى، وقد امتازت بدقتها وثرائها البصري .
- المصداقية والتفاصيل الواقعية: الواسطي واصل رسم الواقع اليومي بتلقائية وإنسانية، فبدت الرسوم مستمدة من مشاهد الحياة الحقيقية .
- التوازن الفني: رغم صغرها، حققت المنمنمات توازناً بين النص والصورة، وأعطت للقارئ بعداً بصرياً يمزج بين السرد والحياة اليومية.
المنمنمات العربية ليست فقط لوحات فنية مصغرة، بل مرآة حضارة كاملة، تروي عبر ألوانها وخطوطها حكايات العلم والدين والأدب في أزمنة مضت. هي نتاج تلاقح حضارات عظيمة، وصورة حية لفكرٍ تميز بالدقة، والبحث عن الجمال في كل شيء، حتى بين سطور الورق.
